الواقع وفانتازيا الرعب في رواية روح غاضبة للروائي المصري أحمد حسن
د. محمد سمير عبد السلام - مصر
"روح غاضبة" رواية حديثة للروائي المصري المبدع أحمد حسن؛ صدرت عن دار النسيم للنشر بالقاهرة، ويجمع الروائي أحمد حسن – في نصه – بين المغامرة الواقعية التي تتسم بالتشويق في تتابع الوظائف السردية، واتحادها الجمالي الوثيق بالبعد النفسي للبطل، وفانتازيا الرعب؛ وتجليها في نموذج الشبح الذي يقع بين الداخل، والخارج في صيرورة القص؛ فالسارد يشير إليه بينما نعاين حضوره الأدبي – بصورة أوضح – في عالم البطل / المؤلف الداخلي؛ ومن ثم تتعدد الرؤى التأويلية للعلامة طبقا لعلاقتها بالواقع، والتحول الداخلي للشخصية، ونماذج ما وراء الواقع معا.
وابتداء من عتبة العنوان / روح غاضبة، يشير السارد إلى لحظة بزوغ متجدد للطيف، ويعلق أحادية مثل هذا الظهور في آن؛ وهو ما يسمح بتعددية الرؤى حول فاعلية الطيف الخفية، أو مساءلة وجوده، وطبيعته؛ ومن ثم مساءلة المفاهيم المركزية للموت، والحياة، والواقع، وما وراء الواقع.
ويفتتح السارد نصه بنص أو بعتبة استهلالية من نص روائي كتبه البطل فريد حول حادث تموت فيه العروس / سارة، ثم يولد شبحها الآخر في وعي، ولاوعي البطل، وتتنامى متوالية العلاقة بين فريد، وشبح سارة / الشخصية النصية حتى يتحد - في موته - بها، ويصير شبحا آخر في وعي المؤلف الذي يحيل إلى نصه الروائي؛ وهو ملمح انعكاسي في الكتابة التي تتجاوز السرد الروائي أو Metafiction ؛ فالبطل يولد في سياق انعكاس ذاتي للنص في عالم المؤلف الواقعي الممزوج بالصورة المتكررة التي تقاوم الموت المطلق بشكل متواتر؛ وهو ما يسمح لفانتازيا الرعب بالتحقق في النص السردي، وتفكيك البنى اليومية المتواترة، ومركزية البدايات، والنهايات أيضا؛ وكأن تلك الصور الطيفية الافتراصية تطرح التساؤل المستمر حول زمن انتهاء القصة، أو الحدث، أو مدلول الواقع الذي يتصل بالنماذج البدائية عن طريق ثراء الوعي، وعالم الشخصية الداخلي.
ويمكننا تأويل حدث تجدد حياة الصورة الطيفية ومغامراتها الممزوجة بالرعب – في الرواية – وفق أربع مسارات متباينة؛ هي:
أولا: التحول، ومقاومة النهايات في القص:
ثمة ملمح نيتشوي – في روح غاضبة – يتعلق بصيرورة السرد، وتحولاته من الموت الافتراضي إلى الولادة الشبحية المتكررة التي تقع بين النص، والواقع، ثم تأكيد الحضور التشبيهي الملتبس بين النص والواقع في النهاية؛ وكأن السارد يوجه خطابا للمروي عليه يتجاوز مركزية النهايات، والمفاهيم الكلية المسبقة.
ويرى فريدريك نيتشه أن الصيرورة هي لعبة للفنان، أو الطفل، وهي تشبه لعبة النار في براءتها، وأبديتها؛ إذ تكدس – مثل الطفل – أكواما من الرمل، ثم تهدمها، وينبع التكرار هنا من غريزة اللعب التي تحيي عوالم جديدة.
(راجع، نيتشه، الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي، ت: د. سهيل النقش، المؤسسة الجامعية ببيروت، ط2، 1983، ص 61، 62).
إن النص الروائي يقوم هنا على مغامرة تجمع بين التكرار، والاختلاف فيما يشبه الصيرورة من جهة، والانعكاس الذاتي والإحالة إلى عالم الراوي نفسه من جهة أخرى؛ وهو ما يؤكد نفي النهايات الحاسمة باتجاه نوع من التحول الملتبس بين الواقع، والفانتازيا؛ ففي البداية تموت سارة جماليا في نص فريد، ثم يولد الشبح بصورة خفية، ثم يراوح بين الظهور، والغياب، ثم تنفك مركزيته في وجهات نظر الأصوات الأخرى في النص مثل فايزة، والطبيب، وأماني، ثم تتدرج الصورة في احتلال وعي فريد ختى تدفع به إلى ارتكاب حادث تكراري؛ ليولد هو من جديد كصورة تتحدث إلى السارد؛ ومثلما راوح السرد بين الظهور، والغياب، والموت، والولادة؛ فقد راوح بين الواقع، وفانتازيا الرعب، والصور النصية الوليدة المتجددة التي تقع بين الواقع، وما وراء الواقع، ثم تعزز من التشبيه وفق تعبير بودريار؛ وهو هنا يتجلى كصورة تسبق الحقيقي؛ فقد ولد المؤلف / البطل / الآخر من خلال تداعيات نص جمالي كان قد كتبه في البداية، وتضمنته عتبة الاستهلال التي ارتكز عليها السارد في الحكي؛ ومن ثم نعاين واقعا ملتبسا في النص، وهذا الواقع يعزز من صيرورة العلامات في فعل الحكي، وتحولاته الممكنة.
ثانيا: الأطياف كنماذج فاعلة في المخيلة:
لقد تطور طيف سارة في النص من الموت الافتراضي إلى التحول في عوالم كابوسية في وعي، ولاوعي شخصية فريد؛ فالطيف هنا نموذج أدبي تدميري ينبع من شخصيات الفن، والنماذج الأسطورية الشبيهة؛ وهو يؤكد ما يذهب إليه الناقد نورثروب فراي من أن هناك صورا جحيمية، تولد من عوالم الكوابيس، والألم، والعبودية، والاضطراب، ومن الخرائب، والمقابر؛ وهي تقع فيما قبل الرغبة البشرية؛ ويمثل لها بجحيم دانتي، ولا مخرج لسارتر.
(راجع، نورثروب فراي، تشريح النقد، ت: د. محمد عصفور، الجامعة الأردنية بعمان، 1991، ص 185، و 186).
لقد ولدت سارة الأخرى من بنى الانتقام، ونماذجه اللاواعية المتعلقة بالعقاب التكراري الذي يذكرنا بعقاب برومثيوس مثلا في الأسطورة الإغريقية؛ فهي تحول النهايات في اتجاه مضاد، وتولد من عوالم أدبية لها فاعلية خفية في واقع البطل، والسارد معا، دون تأكيد مطلق لهذه الفاعلية، وإن كان ارتباطها بالصور الجحيمية وثيقا؛ وهو ما يؤكد حضور هذه الصور، واستعادتها في ذلك العالم الفانتازي المرعب.
ثالثا: العلامة وتحولها الرمزي الداخلي:
هل يصير ذلك الطيف الآخر وسيطا رمزيا يتعلق بالعالم اللاواعي لشخصية فريد؟ إن شخصية سارة تقع بين الداخل والخارج؛ ومن ثم فقد تكون مرتبطة بنوازع الهو أو الأنا الأعلى داخل شخصية فريد، وقد تكون تمثيلا رمزيا لغريزة الموت طبقا لتعبير فرويد، وقد تشبه رسالة بو عند جاك لاكان كوسيط داخلي لاواع مؤجل.
إن سارة تحتل وعي ولاوعي المؤلف، وقد تنبع منهما، ثم تمارس استبدالا لهذا العالم الداخلي نفسه، أو للموت، أو لذاتية الشخصية نفسها التي صارت شبيها بوسيط سارة الرمزي الخيالي للرغبة في النص.
رابعا: الصورة، وفاعلية العوالم الافتراضية:
للصورة فاعلية تستبق الموت في رواية روح غاضبة لأحمد حسن؛ وهو مايدل على فاعلية الافتراضي الثقافية في الواقع؛ فالكاتب البطل يقع فريسة لبطلة نصه في إشارات الراوي المتكررة، والتي توحي بقوة الافتراضي في الواقع الحضاري الراهن؛ وهو ما يؤكد رؤى بودريار حول تحولات الصورة، وأسبقيتها الراهنة؛ وتعزز إشارات الراوي إلى فاعلية الصور، وولوجها لوقائع الشخصيات، وتهديدها الفانتازي لحضورهم الاجتماعي أحيانا، وتفكيكها لبنى الواقع المركزية، ولموت الشخصيات بالمفهوم التقليدي أيضا.
وتتسم خطابات الشخصيات الفنية في رواية أحمد حسن بالتعددية؛ فخطاب أماني يؤكد احتمالية حقيقة الشبح، وعدم اكتمالها، أو أنه خيال يريد أن يحقق فريد شهرة من خلاله؛ أما فايزة فيرتكز خطابها على نوازع الأمومة باتجاه فريد، ونزوعها لذكرياتها الشخصية، والانطباعات التفسيرية التي ترجح أن فريد وقع فريسة لخياله، أو فريسة لشائعات منافسيه؛ أما خطاب الطبيب فقد ارتكز على التفسير المسبق بأنها قد تكون نوعا من الهلاوس، واتجه خطاب السارد إلى استبطان وعي فريد وتصوير الشبح ممزوجا بخطوط الدماء، ويحمل دمية، وأن وجهها فيه موت، ونضارة؛ وهو ما يؤكد ما نراه من النزوع المتناقض النيتشوي للشخصية، والذي يجمع بين الموت، والخصوبة التي تتجلى في وسيط الدمية الرمزي، وكذلك بين الموت، وتكرار نموذج الولادة في النص.
د. محمد سمير عبد السلام – مصر
ناقد أدبي وفني
No comments:
Post a Comment